في مديح الهامش - مكتبتي في علوم الإعلام والاتصال




 

إعلان فوق المشاركات


دور البطولة الذي لا يشار إليه...

يُنظر إلى الهوامش بوصفها مساحة ثانوية مُسخرة لخدمة مضمون أساسي، ومن أجل ذلك لا يحدث أن يخطف الهامش الضوء من "المتن" الذي يلعب دور الصدارة والأهمية بطبيعة الحال، رغم أن الهوامش كانت ولا تزال مرتبطة بالدقة من جهة، والموثوقية من جهة أخرى، فهي إما أن تكون مُوجهة للقارئ بشكل مباشر، فلا تدع له مجاله الخاص لترك انطباعاته وأفكاره، وإما أن تكون مُثرية وغنية لتفتح أبوابًا جانبية للتفكير بغض النظر عن فكرة النص الأصلي. 

وبعيدًا عن هوامش الكتب والمؤلفات التي تبدو اختزالًا غير منصف لفكرة الهامش لو نظرنا إليه من هذه الزاوية المحدودة، نجد مظاهر كثيرة في الفن والرياضة والعلوم والثقافة والحياة الاجتماعية تأخذ شكل الهامش والمتن إلى حد بعيد، كفكرة النجم والجمهور، والمايسترو والفرقة الموسيقية من خلفه، وقائد الفريق والفريق من وراءه، وغير ذلك من هذه الأدوار التي تتقمص شخصية الهامش المُهمَل والمركز المُحتفى به.
إلا أن توصيف الهامش والمركز بالمهم والأهم ليست فكرة متماسكة كما تبدو.
لنأخذ صناعة السينما على سبيل المثال؛ رغم أن ذاكرة الناس تملكها العناوين الرئيسية وأسماء الأبطال والشخصيات في الأعمال السينمائية، إلا أن وراء كل عمل عظيم منطقة ظلٍّ تحفل بالكثير من العمل الشاق والمستمر، فهناك فرق عمل كاملة من مصورين ومخرجين ورسامين وفنيي إضاءة ومهندسي صوت، والعديد من المهن والتخصصات التي تخرج لنا هذه المسلسلات والبرامج والأفلام وكذلك الأغنيات. الأمر لا يقتصر على الفنون وحدها، بل تجده حتى في المهن التي يعدّها الناس برّاقة بينما يقف خلف ظهورها بالشكل الجذاب هذا طبقة عمالية كادحة ومتعرّقة، لا تظهر أسماؤهم في مجالس الإدارة، ولا يحتفي بهم المسؤول عند تحقيق نجاح جديد. الطبقة العمالية التي تقف على رأسها أمجاد المدن وتسقط تحتها الكثير من الشعارات التي ترافق البناء والعمل والتضحية. هؤلاء المجهولون الذين لا يعرفون من الفلاشات سوى صوتها، ولا من الصورة سوى انعكاساتها هم الحقيقة الجلية المتمثلة بالأم الرؤوم التي تلتقط الصور وتجمع البراويز وتحضر كالظل الوارف والضمير الغائب المستتر، وهو ما يطرح السؤال: ماذا لو لم يكن كل هذا الهامش العامل في منطقة الظل موجودًا؟ كيف يمكن أن يوجد ذلك الإيقاع العميق الضابط الذي يصنع أرضية صلبة يمكن البناء عليها؟
وقد نجد في عالم اليوم أن الهامش في سياقٍ ما قد يكون المركز في سياق آخر، وهو ما يبرز بشكل لافت عند استعراض منصات الواقع الافتراضي على سبيل المثال، التي مكّنت الجمهور من أن يكون لهم منصة يقدمون أنفسهم وأفكارهم من خلالها، بل إنها أصبحت أيضًا مكانًا لنشاط الموهبة وإبرازها من خلال مشاركة المقاطع الغنائية والموسيقية، أو سكتشات التمثيل والمقالب والرسم والطبخ وحتى في مجال الرياضة والتدريب والتعليم. ورغم الحديث المتكرر عن سلبيات هذا الظهور غير المخطط له إلا أنه قدم لنا شريحة عريضة ومتنوعة ومتجددة في مختلف المجالات. وقدم حالة من حالات نجومية الهامش وعكس الأدوار.
من الواضح أن الهامش لم يعد معزولًا عن بقية المضمون، وأن المضمون فقد سلطته الكاملة على كل ما يخرج عن النص. قوانين اللعبة تتغير، تُرى هل يعني هذا التغيير أن النص الأصلي فقد قيمته؟ سؤالٌ يليق بنهاية مفتوحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقاتك دعم لمجهوادتنا

إعلان اسفل المشاركات

الصفحات