إعلان علوي

unnamed111

الحتمية القيمية للإعلام: إطار نظري لتوجيه الرسالة الإعلامية

 الحتمية القيمية للإعلام: إطار نظري لتوجيه الرسالة الإعلامية



            تُعدّ نظرية الحتمية القيمية للإعلام (Axiological Determinism of Media)، التي صاغها الأستاذ الدكتور عزي عبد الرحمن، إطارًا نظريًا رائدًا يهدف إلى تجاوز الطابع الوصفي للعديد من النظريات الإعلامية التقليدية إلى الطابع المعياري والتوجيهي.

جوهر النظرية

        تقوم النظرية على مبدأ أساسي مفاده أن القيم (سواء كانت دينية، ثقافية، وطنية، أو إنسانية) هي المحدد الأساسي والمرجعية العليا التي يجب أن تحكم مضامين الرسالة الإعلامية وأخلاقيات ممارستها. فبدلاً من أن يكون الإعلام مجرد ناقل للواقع أو خاضعًا لحتميات تكنولوجية أو اقتصادية بحتة، تدعو النظرية إلى أن يكون خادمًا وناشراً للقيم الإيجابية في المجتمع.

تطبيقاتها وأهدافها

تُقدم الحتمية القيمية منهجًا عمليًا لتقييم وتصميم المحتوى الإعلامي، حيث تدعو إلى:

*الانسجام القيمي: ضمان توافق الرسائل الإعلامية مع المنظومة القيمية للمجتمع.

*التأثير الإيجابي: توجيه الإعلام لخدمة التنمية، الوحدة، ومحاربة الأفكار السلبية والهدّامة.

في جوهرها، تسعى النظرية إلى إعادة بناء الضمير المهني وتوفير بوصلة قيمية للإعلاميين، جاعلةً من القيمة حتمية لا يمكن تجاوزها في صناعة الرسالة الإعلامية.

تطبيقات الحتمية القيمية للإعلام في البيئة الرقمية

تكتسب نظرية الحتمية القيمية للأستاذ الدكتور عزي عبد الرحمن أهمية متزايدة في البيئة الرقمية المعاصرة، حيث تواجه الرسالة الإعلامية تحديات جمة بسبب سرعة الانتشار وغياب الرقابة الذاتية. يتم تطبيق النظرية في هذا السياق عبر عدة محاور:

1. التوجيه القيمي للمحتوى (Content Curation)

        في ظل فيض المعلومات (Infobesity) على المنصات الرقمية (كـمنصة X، فيسبوك، يوتيوب، وتيك توك)، تُصبح الحتمية القيمية بمثابة مرشح (Filter). فهي توجه الإعلاميين وصانعي المحتوى الرقمي إلى:

أ- أولوية القيمة: تقديم المحتوى الذي يعزز الوحدة الوطنية، التسامح، والنزاهة، وتجنب محتوى الكراهية أو الإثارة الرخيصة.

ب- المسؤولية الأخلاقية: استشعار المسؤولية عند نشر الأخبار أو الآراء لتجنب التضليل أو الأخبار الكاذبة (Fake News) التي تنتشر بسرعة فائقة رقمياً.

2. مواجهة الإشكاليات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي (AI Ethics)

مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي (AI) في صناعة المحتوى الإعلامي (كتابة النصوص، صناعة الصور، وتوليد الفيديوهات)، تتدخل الحتمية القيمية لتكون مرجعاً معيارياً لبرمجة هذه الأدوات:

أ- تجنب الانحياز: ضمان أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي لا تُكرّس الانحيازات القائمة على القيمة (Axiological Biases) أو تُعزز التمييز.

ب- الأصالة والموثوقية: التأكيد على أن المحتوى المُولد بالذكاء الاصطناعي يخدم الحقيقة والقيمة، ولا يُستخدم في خلق تزييف عميق (Deepfakes) يهدد الثقة المجتمعية.

3. بناء مجتمع رقمي إيجابي

         الهدف الأسمى للتطبيق الرقمي هو تحويل الفضاء السيبراني من بيئة سلبية مُركّزة على النقد الهدّام والتنمر إلى منصة تُشجع على التفاعل الإيجابي والنقاش البنّاء من خلال حتمية توجيه الرسالة الإعلامية لخدمة الصالح العام.

تحديات تطبيق الحتمية القيمية في بيئة المنصات العابرة للقارات:

         يُشكل تطبيق الحتمية القيمية في الفضاء الذي تهيمن عليه المنصات الرقمية العالمية (Global Digital Platforms)، مثل "ميتا" و"جوجل"، تحدياً معقداً نظراً لطبيعتها التي تتجاوز الحدود والسلطات الوطنية.

1. تضارب المرجعيات القيمية والقانونية

        سيادة القيمة مقابل سيادة الشركة: هذه المنصات تخضع للقوانين والقيم الخاصة بالدول التي تتخذها مقراً (غالباً الولايات المتحدة)، والتي قد تتعارض مع المنظومة القيمية (الدينية، الأخلاقية، والثقافية) للدول المُستقبِلة للرسائل الإعلامية، خاصة في قضايا مثل الحرية الفردية مقابل الحفاظ على النظام العام.

المعايير المُطبّقة: المنصات تعتمد على معايير مجتمعية (Community Standards) موحدة عالمياً، وهذه المعايير غالباً ما تكون ليبرالية وواسعة، مما يصعّب فرض حتمية قيمية محلية صارمة على المحتوى المنتشر عبرها.

2. حتمية الخوارزميات (Algorithmic Determinism)

* الدافع الاقتصادي: خوارزميات المنصات مصممة في المقام الأول لتعظيم التفاعل (Engagement) والربح (Profit)، وليس لخدمة القيمة المجتمعية. غالباً ما تمنح هذه الخوارزميات الأولوية للمحتوى المثير للجدل أو الغاضب لأنه يحصد تفاعلاً أعلى.

الإغراق الثقافي: تؤدي الخوارزميات إلى إغراق ثقافي (Cultural Overload)، حيث يتم ضخ محتوى لا يتوافق مع الحتمية القيمية المحلية، مما يضعف دور الإعلام الوطني المُلتزم بهذه القيم.
3. ضعف الرقابة والمساءلة
* صعوبة التنظيم: تفتقر الدول إلى أدوات فعالة لتنظيم ومساءلة هذه الشركات العملاقة عن المحتوى الذي تنشره أو تسمح بانتشاره على أراضيها، مما يقلل من قدرتها على فرض "حتمية القيم" على هذا الفضاء.
مقترحات وحلول لتمكين الحتمية القيمية في الفضاء الرقمي 

 على المستوى الوطني: 
- التشريعات الذكية: سن قوانين واضحة ومحددة تفرض على المنصات التزاماً بمعايير قيمية معينة تتعلق بالمحتوى الذي يستهدف الجمهور المحلي. يجب أن تركز هذه القوانين على مكافحة خطاب الكراهية، الإساءة للمقدسات، والتضليل، مع فرض غرامات رادعة.
بناء البدائل المحلية: دعم وتطوير منصات رقمية ووسائل تواصل اجتماعي محلية أو إقليمية تكون مُلتزمة أصلاً بالمنظومة القيمية الوطنية، مما يوفر بديلاً للمستخدمين ويقلل الاعتماد على المنصات الأجنبية.
تعزيز التربية الإعلامية: إدماج التربية الإعلامية والرقمية في المناهج التعليمية لتدريب الأفراد (الجمهور) على الفرز القيمي والتحليل النقدي للمحتوى الرقمي، مما يجعلهم مستهلكين فاعلين يرفضون المحتوى السلبي بشكل ذاتي.
2- على المستوى الإقليمي والدولي: الضغط المشترك
* تحالفات إقليمية للقيم: تشكيل تكتلات أو تحالفات بين الدول المتشابهة في المنظومة القيمية (على غرار جامعة الدول العربية أو منظمة التعاون الإسلامي) للضغط بشكل جماعي على المنصات لتعديل معاييرها المجتمعية العالمية بما يحترم الخصوصيات الثقافية والدينية لهذه الدول.
المطالبة بالشفافية: العمل على إلزام المنصات بالكشف عن آلية عمل الخوارزميات (Algorithmic Transparency) التي تنظم المحتوى للمستخدمين في مناطقهم، للتأكد من أنها لا تعطي الأولوية لمحتوى يتعارض مع القيم المحلية.
3. على مستوى الشركات والمهنيين: الأخلاقيات التطبيقية
* المراجعة القيمية للمحتوى: تشجيع المنصات على توظيف مدققين للمحتوى (Content Moderators) من ذوي الخلفيات الثقافية واللغوية المحلية لفهم السياق القيمي للرسائل وتطبيق الحتمية القيمية بفاعلية أكبر.
التعاقد القيمي: تطوير مواثيق شرف مهنية جديدة للإعلاميين وصانعي المحتوى الرقمي تُلزمهم بتبني "الحتمية القيمية" في إنتاجهم الرقمي، جاعلين من القيمة الإيجابية حداً أدنى غير قابل للتفاوض في عملية النشر.
            تهدف هذه الحلول إلى إحداث توازن بين حرية التعبير وضرورة الحفاظ على البنية القيمية للمجتمعات، بحيث يتحول الفضاء الرقمي إلى أداة لخدمة التنمية والقيم بدلاً من تهديدها.

تفعيل "سيادة القيمة"

        لمواجهة التحديات التي تفرضها المنصات العابرة للقارات، يمكن تبني مجموعة من الحلول المتكاملة التي تعمل على المستويات الوطنية، والإقليمية، والدولية لتمكين الحتمية القيمية للإعلام:

خلاصة: يتطلب تطبيق الحتمية القيمية في هذا السياق، بالإضافة إلى الجهد الوطني، تضافراً دولياً للضغط على هذه المنصات لتبني معايير أكثر شمولاً واحتراماً للتنوع القيمي والثقافي العالمي.

ليست هناك تعليقات

تعليقاتك دعم لمجهوادتنا